الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
ذكر عن توبة بن تمر الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة وفيه لغتان خصاء وإخصاء والحديث مروي بكل واحد من اللفظين وفي تفسيره قولان أحدهما: النهي عن إخصاء بني آدم بصيغة النفي وهو أبلغ ما يكون من النهي وذلك حرام بالنص قال الله تعالى: وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: أمنع أهل الذمة من إحداث شيء من الكنائس في البلاد المفتوحة من خراسان وغيرها ولا أهدم شيئاً مما وجدته قديما في أيديهم ما لم أعلم أنهم أحدثوا ذلك بعدما صار ذلك الموضع مصراً من أمصار المسلمين لأن تغيير ما وجد قديماً لا يجوز إلا بدليل موجب لذلك وتمكينهم من إحداث ذلك في موضع صار معداً لإقامة أعلام الإسلام فيه كتمكين المسلم من الثبات على الشرك بعد الردة وذلك لا يجوز بحال. فإن طلب قوم من أهل الحرب أن يصيروا ذمة للمسلمين يجري عليهم أحكام الإسلام على أن يؤدوا عن رقابهم وأراضيهم شيئاً معلوماً فإنه يجب على الإمام أن يجيبهم إلى ذلك لأن عقد الذمة ينتهي به القتال كالإسلام فكما أنهم لو طلبوا عرض الإسلام عليهم يجب إجابتهم إلى ذلك فكذلك إذا طلبوا عقد الذمة وهذا لأنهم يلتزمون أحكام الإسلام بهذا الطريق فيما يرجع إلى المعاملات ثم ربما يرون محاسن الشريعة ويسلمون فكان هذا في معنى الدعاء إلى الدين بأرفق الطريقين. وقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران إلى هذا حين طلبوا منه فصالحهم على ألفي حلة في سنة أو على ألف ومائتي حلة فإن صولحوا على هذا وأراضيهم مثل أرض الشام مدائن وقرى فليس ينبغي للمسلمين أن يأخذوا شيئاً من دورهم وأراضيهم ولا أن ينزلوا عليهم منازلهم لأنهم أهل عهد وصلح وقد نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لا أحل لكم شيئاً من دورهم من أموال المعاهدين ولأنهم قبلوا الذمة لتكون أموالهم وحقوقهم كأموال المسلمين وحقوقهم. فإن أراد المسلمون أن يتخذوا مصراً في الموات من تلك الأراضي التي لا يملكها أحد فلا بأس بذلك لأنه ليس في هذا تعرض لشيء من أملاكهم وقد صارت ديارهم من جملة ديار الإسلام بظهور أحكام الإسلام فيها فالرأي إلى الإمام في الموات من الأراضي في دار الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم: ألا إن عادي الأرض لله ورسوله ثم هي لكم مني فإن كان قرب ذلك المصر الذي أتخذه المسلمون في الموات من الأراضي قرى لأهل الذمة فعظم المصر حتى جاوز تلك القرى فقد صارت من جملة المصر لإحاطة المصر بجوانبها فإن كان لهم في تلك القرى كنائس أو بيع أو بيوت نيران تركت على حالها لأنهم أهل صلح قد استحقوا به ترك التعرض لهم في ذلك الحكم بصيرورة ذلك الموضع مصراً. ألا ترى أنه لا يجوز التعرض لهم في أخذ شيء من أملاكهم وإزعاجهم من ذلك الموضع لأنهم استحقوا ذلك بعقد الصلح. ولكن إن أرادوا إحداث بيعة أو كنيسة في تلك الموضع لم يكن لهم ذلك لأنه صار من جملة أمصار المسلمين يصح فيه الجمع والأعياد وتقام فيه الحدود وفي تمكينهم من إحداث شيء من ذلك في مثل هذا الموضع إدخال الوهن على المسلمين أو تمكينهم من المعارضة مع المسلمين صورة وهذا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ولا كنيسة يوضحه: أن ما كانت لهم من الكنائس في هذا الموضع قد تأكد حقه فيها بالتقرير بعدما صار ذلك الموضع دار الإسلام فلا يتغير ذلك بما أحدث من الحال وهو تصيير ذلك الموضع مصراً للمسلمين بخلاف ما إذا أرادوا الإحداث وهو نظير حكم في حادثة أمضاه القاضي باجتهاد ثم تحول رأيه فإنه لا ينقض ذلك وإن كان يبنى مثل تلك الحادثة في المستقبل على ما ظهر له من الرأي فيه. وكذلك إن كانوا يبيعون الخمور والخنازير علانية في ذلك الموضع فإنهم يمنعون من ذلك بعدما صار ذلك الموضع مصراً لأن هذا تصرف ينشئونه وقد بينا في المبسوط أن أهل الذمة يمنعون من إظهار بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين ومن إدخال ذلك في الإمصار على وجه الشهرة والظهور. هكذا نقل عن عمر وعلي رضي الله عنهما ولأن هذا فسق وفي إظهار الفسق في أمصار المسلمين استخفاف بالدين وما صالحناهم على أن يستخفوا بالمسلمين. وكذلك إن حضر لهم عيد يخرجون فيه صليبهم فليفعلوا ذلك في كنائسهم القديمة فأما أن يخرجوا ذلك من الكنائس حتى يظهروه في المصر فليس لهم ذلك لما فيه من الاستخفاف بالمسلمين ولكن ليخرجوه خفياً من كنائسهم حتى إذا أخرجوه من المصر إلى غير المصر فليصنعوا من ذلك ما أحبوا يعني إذا جاوزوا أفنية المصر لأن فناء المصر كجوفه في حكم إقامة الجمعة فخرج مع الناس إلى بعض أفنية المصر فله أن يصلي الجمعة بهم وهم يمنعون من إظهار ذلك في الموضع الذي يظهر المسلمون فيه مثل ذلك لكيلا يؤدي إلى صورة المعارضة فعرفنا أن فناء المصر في هذا كجوف المصر. وكذلك ضرب الناقوس لم يمنعوا منه إذا كانوا يضربونه في جوف كنائسهم القديمة فإن أرادوا الضرب بها خارجاً فليس ينبغي أن يتركوا ليفعلوا ذلك لما فيه من معارضة أذان المسلمين في الصورة فأما كل قرية أو موضع ليس بمصر من أمصار المسلمين فإنهم لا يمنعون من إحداث جميع ذلك فيها وإن كان فيها عدد من المسلمين نزول لأن هذا ليس بموضع إعلام الدين من إقامة الجمعة والأعياد فيه وكثير من أئمة بلخ رحمهم الله تعالى قالوا: إنما أجابوا بهذا ها هنا وفي المبسوط بني على حال قراهم بالكوفة فإن عامة من يسكنها أهل الذمة والروافض فأما في ديارنا فهم يمنعون من ذلك في القرى كما يمنعون منه في الأمصار لأنها موضع جماعات المسلمين وجلوس الواعظين والمدرسين بمنزلة الأمصار واستدلوا بلفظ ذكره هنا فقال: فأما المصر الذي الغالب عليه أهل الذمة مثل الحيرة وغيرها ليست فيها جمعة ولا حدود تقام فإنهم لا يمنعون من إحداث ذلك فيها ومشايخ ديارنا يقولون: لا يمنعون من إحداث ذلك في القرى على كل حال واستدلوا بلفظ ذكره ها هنا فقال: القرى التي أهلها مسلمون إلا أنها ليست بأمصار فيها جمع وحدود إذا اشترى قوم من أهل الذمة فيها منازل واتخذوا فيها الكنائس والبيع وأعلنوا فيها بيع الخمر والخنزير لم يمنعوا من ذلك لأن المنع باعتبار أنه موضع إقامة معالم الدين فيه من الجمع والأعياد وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام وفي مثل هذا دليل على أن تنفيذ الأحكام يختص بالأمصار دون القرى وهكذا أشار إليه في أدب القاضي بخلاف ما ذكر الخصاف: أن القرى في ذلك كالأمصار وقد بينا ذلك في شرح المختصر. فالحاصل أنهم يمنعون من إحداث ذلك في المصر وما يكون من فناء المصر ولا يمنعون من ذلك في القرى التي يكون أكثر السكان بها من أهل الذمة فأما في القرى التي يسكنها المسلمون اختلاف بين المشايخ على ما بينا ولو شرط عليهم المسلمون في أصل الصلح أن يقاسموهم منازلهم في مدائنهم وأمصارهم فذلك جائز لأن اشتراط هذا الملك عليهم كاشتراط مال آخر فيجوز إذا كان معلوماً. فإن نزل عليهم المسلمون في مدائنهم وقراهم وفيها الكنائس وبيع الخمور والخنازير علانية وتزويج المحارم فكل موضع صار مصراً للمسلمين تجمع فيه الجمع وتقام فيه الحدود فإنهم يمنعون من إحداث الكنائس فيه وإظهار شيء مما كانوا يظهرونه قبل ذلك لأن هذا الموضع قد صار من أمصار المسلمين بما أحدثوا من السكنى فيه بعد الصلح فهو في الحكم نظير ما تقدم مما جعلوه مصراً بعد أن كان من قرى أهل الذمة فكل حكم ذكرناه هناك فهو كالحكم ها هنا. فإن انهدمت كنيسة من كنائسهم القديمة فلهم أن يبنوها كما كانت لأن حقهم في هذه البقعة قد كان مقرراً لم كانوا أعدوه له فلا يتغير ذلك بانهدام البناء فإذا بنوه كما كان فالبناء الثاني مثل الأول. وإن قالوا: نحوله من هذا الموضع إلى موضع آخر من المصر فليس لهم ذلك لأن الموضع الآخر قد صار معداً لأظهار أحكام الإسلام فيه فلا يمكنون من أن يجعلوه معداً بعد ذلك لإظهار حكم الشرك فيه وإن كان بعوض يجعلونه للمسلمين بمنزلة المرتد إذا طلب أن يمكن من الثبات على الردة بمال يعطى للمسمين فإنه لا يجاب إلى ذلك بحال. أرأيت لو أرادوا أو يحولوه إلى موضع كان مسجداً للمسلمين في وقت من الأوقات على أن يبنوا في هذا الموضع للمسلمين مسجداً أجود مما كان منه وأوسع أكان يحل إجابتهم إلى ذلك لا يجوز بحال. ولو ظهر الإمام على قوم من أهل الحرب وعلى أرضهم فرأى أن يجعلهم ذمة كما فعله عمر رضي الله عنه بأهل سواد الكوفة فهو جائز مستقيم لأنه فعله ذلك بعدما شاور الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وحاجهم بدلالة النص من الكتاب وهو قوله تعالى: فإن مصر الإمام في أراضيهم مصراً للمسلمين كما مصر عمر رضي الله عنه البصرة والكوفة فاشترى بها أهل الذمة دوراً وسكنوا مع المسلمين لم يمنعوا من ذلك لأنا إنما قبلنا منهم عقد الذمة ليقفوا على محاسن الدين فعسى أن يؤمنوا واختلاطهم بالمسلمين في السكنى معهم يحقق هذا المعنى قال رضي الله عنه: وكان شيخنا الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: هذا إذا قلوا وكان بحيث لا يتعطل بعض جماعات المسلمين ولا يتقلل الجماعة بسكناهم بهذه الصفة فأما إذا كثروا على وجه يؤدي إلى تعطيل بعض الجماعات أو تقليلها منعوا من ذلك وأمروا بأن يسكنوا ناحية ليس فيها للمسلمين جماعة وهذا محفوظ عن أبي يوسف رحمة الله تعالى عليه. فإن اشتروا دوراً للسكنى فأرادوا أن يتخذوا داراً منها كنيسة أو بيعة أو بيت نار يجتمعون فيها لصلاتهم منعوا من ذلك لما في إحداث ذلك من صورة المعارضة للمسلمين في بناء المساجد للجماعات وفيه إزدراء بالدين واستخفاف بالمسلمين. وكذلك يمنعون من إظهار بيع الخمور والخنازير ونكاح ذوات المحارم في هذا المصر لأن في هذا الإظهار معنى الاستخفاف بالمسلمين ومقصودهم يحصل بدون الإظهار. ولا ينبغي لأحد من المسلمين أن يؤاجرهم بيتاً لشيء من ذلك لما فيه من صورة الإعانة إلى ما يرجع إلى الاستخفاف بالمسلمين فإن آجرهم فاظهروا شيئاً من ذلك في تلك الدار منعهم صاحب البيت وغيره من ذلك على سبيل النهي عن المنكر وهو في ذلك كغيره ولا يفسخ عقد الإجارة بهذا بمنزلة ما لو آجر بيته من مسلم فكان يجمع الناس فيه على الشراب أو يبيع المسكر فيه فإنه يمنعه من ذلك على سبيل النهي عن المنكر ولا تفسخ الإجارة لأجله لأن المنع من هذا ليس لمعنى يتصل بعقد الإجارة. وإن اتخذ فيه مصلى لنفسه خاصة لم يمنع من ذلك لأن هذا من جملة السكنى وقد استحق ذلك بالإجارة وإنما يمنع مما فيه صورة المعارضة للمسلمين في إظهار أعلام الدين وذلك بأن يبنيه كنيسة يجتمعون فيها لصلاتهم. فإن أراد أن يجعل هذا البيت صومعة يتخلى فيها أصحاب الصوامع منع من ذلك في أمصار المسلمين لأن هذا شيء يشتهر فهو بمنزلة اتخاذ الكنيسة لجماعتهم. فإن صارت بلدة من هذه البلاد مصراً من أمصار المسلمين يجمع فيه الجمع ويقام فيه الحدود ولهم فيه كنيسة قديمة فإن الإمام يمنعهم من الصلاة فيها بخلاف ما تقدم من الأمصار التي صالح عليها أهلها قبل أن يقع الظهور عليهم فإن هناك تترك لهم الكنائس القديمة ويمنعون من إحداث الكنائس بعدما صارت مصراً من أمصار المسلمين وها هنا يمنعون من إحداث الكنائس ولا يترك له الكنائس القديمة أيضاً إذا وقع الظهور عليهم لأن الإمام لو قسمها بين الغانمين لم يترك فيها شيئاً من الكنائس فكذلك إذا جعلهم ذمة وكان المعنى فيه أن سبب استحقاق إظهار أحكام المسلمين في كل موضع في هذا المصر قد تقرر حين فتح عنوة ويثبت حق المسلمين فيه فبعد ذلك الرأي إلى الإمام فيما يرجع إلى النظر للمسلمين لا في إبطال حقهم وفي الأول ما تقرر سبب الاستحقاق في تلك الأراضي للمسلمين وإنما أثبت الإمام ذلك بالصلح فيقتصر على ما تناوله عقد الصلح ألا ترى أن ها هنا يضع الجزية على جماعتهم والخراج على أراضيهم وهناك لا يلزمهم من المال عن نفوسهم وأراضيهم إلا مقدار ما وقع الصلح عليه. توضيحه: أن هناك بالصلح تقرر حقهم الذي كان ثابتاً قبله وإنما يثبت حق المسلمين بناء على حقهم المتقرر فيصير الحق الثابت فيها للمسلمين مانعاً لهم من إحداث الكنائس والبيع ولا يصير موجباً للاعتراض عليهم فيما تقرر حقهم فيه وها هنا اعترض حقهم على الحق الثابت فيها للمسلمين باعتبار رأي رآه الإمام في المن عليهم وذلك الرأي مقيد بالنظر وفيما لا نظر فيه للمسلمين يعتبر تقدم حق المسلمين وكان هذا نظير المستأمن في دارنا يمكن من الرجوع إلى دار الحرب وهؤلاء الذين جعلهم الإمام ذمة لا يمكنون الرجوع إلى دار الحرب بحال للمعنى الذي أشرنا إليه. إلا أنه لا ينبغي للإمام أن يهدم أبنية الكنائس القديمة لهم ولكن يمنعهم من الصلاة فيها ويأمرهم بأن يجعلوها مساكن يسكنونها لأنها مملوكة لهم ولما جعلهم ذمة فقد أظهر الحرمة والعصمة لأملاكهم فلا يجوز له أن يتعرض لشيء من ذلك بالتخريب عليهم ولكن يمنعهم من أن يجتمعوا فيها لتعبدهم لما فيه من إظهار الشرك في موضع ثبت حق المسلمين في إظهار أحكام الإسلام فيه. فإن عطل المسلمون هذا المصر حتى تركوا إقامة الحدود والجمع فيها فلأهل الذمة أن يتخذوا فيها ما أرادوا من الكنائس وأن يظهروا بيع الخمر والخنزير فيها لأن المنع من ذلك المعنى قد ارتفع ألا ترى أنه كانوا لا يمنعون فيه قبل أن يجعلها الإمام مصراً للمسلمين يقيم فيها الجمع والأعياد فكذلك بعدما ترك ذلك لأن المانع صورة المعارضة. قال: وليس ينبغي أن يترك في أرض العرب كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار في شيء من الأمصار والقرى وكذلك لا ينبغي أن يظهر فيها بيع الخمر والخنزير بحال من الأحوال لأن هذا كله يبتني على سكنى أهل الذمة فيها وهم لا يمكنون من استدامة السكنى في أرض العرب كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه موضع ولادته ومنشئه وإلى ذلك اشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: لا يجتمع في أرض العرب دينان وقال: لئن بقيت لأخرجن بني نجران من جزيرة العرب ثم أجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه إلى الشام وقد كان لهم عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أجلى يهود خيبر ويهود وادي القرى وغيرهم ممن كان يسكن أرض العرب من اليهود والنصارى حتى لحق بعضهم بالشام وبعضهم بالعراق فظهر بهذا أنهم يمنعون من استدامة السكنى لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحاجة إلى ذلك في المنع من تلك الكنائس وإظهار بيع الخمور والخنازير فيها أظهر. وإذا دخلها مشرك تاجراً على أن يتجر ويرجع إلى بلاده لم يمنع من ذلك وإنما يمنع من أن يطيل فيها المكث حتى يتخذ فيها مسكناً لأن حالهم في أرض العرب مع التزام الجزية كحالهم في المقام في دار الإسلام بغير التزام الجزية وهناك لا يمنعون من التجارة وإنما يمنعون من إطالة المقام فكذلك حالهم في أرض العرب حتى إذا أراد رجل من أهل الذمة أن ينزل أرض العرب مثل المدينة ومكة والطائف والربذة ووادي القرى فإنه يمنع من ذلك. لأن هذا كله من أرض العرب وقد بينا أن أرض العرب من عذيب إلى مكة طولاً ومن عدن أبين إلى أقصى حجر باليمن بمهرة عرضاً. وكل مصر من أمصار المسلمين يجمع فيها الجمع فليس ينبغي لمسلم ولا كافر أن يدخل فيها خمراً ولا خنزيراً ظاهراً فإن فعل ذلك مسلم وقال: إنما مررت مجتازاً وأنا أريد أن أخلل الخمر أو قال: ليس هذا لي فإن كان رجلاً ديناً لا يتهم على ذلك خلي سبيله لأن ظاهر حاله يشهد على صدقه في خبره والبناء على الظاهر واجب حتى يتبين خلافه خصوصاً فيما لا يمكن الوقوف على حقيقة الحال. وإن كان ممن يتهم بتناول ذلك أهريقت خمره وذبح خنزيره وأحرق بالنار لأن ظاهر حاله يدل على أن قصده كان ارتكاب الحرام وفعله الذي ظهر على قصد ارتكاب الحرام حرام فيمنعه من ذلك على سبيل النهي عن المنكر. وإن رأى أن يؤدبه بأسواط ويحبسه حتى تظهر توبته فعل لأنه صار مستوجب التعزير بارتكاب ما لا يحل وهو إظهار الخمر والخنزير في مصر المسلمين. ولا ينبغي له أن يتعرض للإناء بالكسر والتمزيق لأن هذا مال متقوم عند المسلمين فلا ينبغي أن يفسده على مالكه إذ التعزير بإيلام في البدن لا بإفساد في المال وقد بينا هذا في باب إحراق رحل الغال وإن فعل ذلك إنسان ضمن قيمة ما افسده لأنه أتلف مالاً متقوماً يمكن الانتفاع به بوجه حلال. إلا أن يكون من رأي الإمام أن يفعل ذلك عقوبة لما صنع صاحبه فحينئذ لا ضمان عليه فيما صنع ولا على من أمره به لأن هذا منه حكم في موضع الاجتهاد وقد بينا اختلاف العلماء في إحراق رحل الغال وحكم الإمام في المجتهدات نافذ ومن أصحابنا من يقول: تأويل هذا في إناء يشرب فيه الخمر على وجه لا يمكن الانتفاع به بطريق آخر فإنه إذا كان بهذه الصفة يجوز إفساده على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكسر الدنان وشق الزقاق والأصح هو الأول فإنه إذا كان بهذه الصفة كان الإمام وغير الإمام في هذا سواء كما في إراقة الخمر وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك تحقيقاً للزجر عن العادة المألوفة فكذلك ها هنا إن رأى الإمام أن يأمر به على تحقيق معنى الزجر كان ذلك منه حكماً نافذاً. فإن أخذ الزق والدابة التي كان عليها ذلك الشراب فباع ذلك كله فبيعه باطل لأنه باع مال الغير بغير إذن صاحبه والإمام في هذا كغيره من الناس في أنه لا ولاية له في بيع المال على مالكه من غير حق مستحق عليه. وإن كان الذي أدخله ذمياً فإن كان جاهلاً يرد عليه متاعه وتقدم إليه في ذلك فأخبره بأنه إن عاد أدبه لأن هذا مما قد يشتبه عليهم والجهل في مثله عذر مانع من التأديب. فإن عاد بعدما تقدم إليه أو كان عالماً في الابتداء أن هذا لا ينبغي له لم ينبغ للإمام أن يريق خمره ولا يذبح خنزيره لأن ذلك مال متقوم في حقه وقد بينا أن التأديب ليس بإتلاف المال ولكنه يؤدبه على ذلك بالضرب والحبس. وإن أتلف شيئاً من ذلك عليه ضمن قيمته إلا أن يرى الإمام أن يفعل ذلك به على وجه العقوبة والحاصل أن حقهم في الخمر والخنزير ها هنا كحق المسلمين في الأوانين فإن كل واحد منهما مال متقوم لصاحبه كما بينا. ولو مر ذمي بخمر له في سفينة في مثل دجلة والفرات فمر بها في وسط بغداد أو واسط أو المدائن لم يمنع من ذلك لأن هذا الطريق الأعظم لا بد له من الممر فيه يعني أن ما لا يستطاع الامتناع منه فهو عفو ولأن المنع منه في موضع يقام في شيء من أعلام الإسلام كيلا يؤدي إلى الاستخفاف بالمسلمين وهو غير موجود في وسط الدجلة. إلا أنه لا يترك أن يرد بها إلى شيء من قرى هذه الأمصار ظاهراً لما في ذلك من الاستخفاف بالمسلمين وهذا غير موجود في وسط دجلة بمنزلة الأسواق والطرق التي فيها مجمع المسلمين فإن فعل شيئاً من ذلك فالحكم في تأديبه كما بينا وكذلك لو أرادوا الممر بذلك في طريق الأمصار ولا ممر لهم غير ذلك لم يمنعوا منه لأن هذا مما لا يستطاع الامتناع منه. فإن كان لهم طريق يأخذون فيه غير الأمصار منعوا من ذلك لأنه لا حاجة لهم الآن إلى ذلك. وإن لم يكن لهم طريق سوى ذلك فينبغي لفمام أن يبعث معهم أميناً حتى يخرجهم من المصر نظراً منه لهم حتى لا يتعرض لهم أحد من المسلمين ونظراً منه للمسلمين حتى لا يخلو حالهم في معنى ذلك عن معنى الذل أو حتى لا يدخلوا ذلك بعض مساكن للمسلمين من المتهمين بشرب شيء من ذلك وكل قرية من قرى أهل الذمة أظهروا شيئاً من الفسق مما لم يصالحوا عليه مثل الزنا وإتيان الفواحش فإنهم يمنعون من ذلك كله لأن هذا ليس بديانة منهم ولكنه فسق في الديانة فإنهم يعتقدون الحرمة في ذلك كما يعتقده فيه المسلمون ثم المسلمون يمنعون من كله في القرى والأمصار فكذلك أهل الذمة. والأصل فيه عقد الربا فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران بأن تدعوا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله وكان ذلك لهذا المعنى أنه فسق منهم في الديانة فقد ثبت بالنص حرمة ذلك في دينهم قال الله تعالى: ولو طلب قوم من أهل الحرب الصلح على شرط أن المسلمين إن اتخذوا مصراً في أرضهم لم يمنعوهم من أن يحدثوا فيه بيعة أو كنيسة وأن يظهروا فيه بيع الخمر والخنزير فلا ينبغي للمسلمين أن يصالحوهم على ذلك لأن هذا في معنى إعطاء الدنية في الدين والتزام ما يرجع إلى الاستخفاف بالمسلمين فلا يجوز المصير إليه إلا عند تحقق الحاجة والضرورة. فإن أعطاهم الإمام على هذا عهداً فإنه لا ينبغي له أن يفي بهذا الشرط لأنه مخالف لحكم الشرع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاء منهم مسلماً ثم نسخ الله تعالى هذا الشرط بقوله: ألا ترى أنهم لو شرطوا في الصلح إظهار الزنا واستئجار الزواني علانية لا يجوز الوفاء لهم بهذا الشرط بل يقام الحد على من يثبت عليه الزنا منهم فكذلك ما سبق. ولو أن الذين صالحوا على أراضيهم أحدثوا كنائس في قراهم وأمصارهم بعدما صاروا ذمة ثم صار ذلك الموضع مصراً من أمصار المسلمين يجمع فيها الجمع فليس ينبغي للمسلمين أن يهدموا شيئاً من ذلك لأنهم أحدثوه وما كانوا ممنوعين من إحداثه يومئذ فكان ذلك وكنائسهم القديمة التي وقع الصلح عليها سواء فيترك ذلك لهم. ويمنعون من إحداث الكنائس بعدما صار مصراً من أمصار المسلمين فإن قيل: كيف يمنعون من إظهار بيع الخمور والخنازير في هذا المصر ولا يمنعون من الصلاة في الكنيسة القديمة قلنا: لأن بيع الخمر والخنزير إنشاء تصرف منهم بعدما صار ذلك الموضع دار الإسلام فأما استدامة الكنيسة على ما كانت فليس بإنشاء التصرف وصلاتهم فيها وإن كان إنشاء التصرف فبعقد الذمة قد استحقوا ترك التعرض لهم في ذلك فكأن صلاتهم فيها بمنزلة شربهم الخمر وأكلهم الخنازير. ولو أن مصراً من أمصار أهل الذمة صار مصراً للمسلمين يجمع فيها الجمع فمنعوا من إحداث كنيسة فيه ثم تحول المسلمون عنه فلم يبق فيه منهم إلا نفر يسير فقد بينا أنه يعود الحكم فيه على ما كان في الابتداء لا يمنعون من إحداث الكنائس فيه فإن بنوا فيها الكنائس ثم بدا للمسلمين فرجعوا إلى ذلك المصر لم يهدموا شيئاً مما أحدثوا من الكنائس قبل عود المسلمين إليهم لأنهم حين بنوا ما كانوا ممنوعين منه فكان هذا وما بنوه قبل أن يتخذ المسلمون ذلك الموضع مصراً لهم سواء وإن كان ذلك الموضع أخذ عنوة فقد بينا أنهم يمنعون من الصلاة فيها كما يمنعون من ذلك في الكنائس القديمة. فإن كانت لهم كنيسة قديمة في مصر من أمصار المسلمين فأراد المسلمون منعهم من الصلاة فيها فقالوا: نحن قوم من أهل الذمة صالحنا على بلادنا وقال المسلمون: بل أخذنا بلادكم عنوة ثم جعلتم ذمة وهو أمر قد تطاول فلم يدر كيف كان فإن الإمام ينظر في ذلك هل يجد فيه أثراً عند الفقهاء ويسأل أصحاب الأخبار كيف كان أصل هذه الأرض فإن وجد فيه أثراً عمل به لأن نقل الثقات الأخبار حجة شرعية في وجوب العمل بها ولأن هذا مما لا يمكن إثباته بالشهادة القاطعة لأنه لم يبق أحد ممن أدرك ذلك الوقت وما جرى الرسم بالإشهاد على الشهادة في مثل هذا فيكتفي فيه بما يوجد من الحجة في أيدي الفقهاء لأن الوسع معتبر في الحج ولهذا يكتفى بشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال ولأن هذا من أمر الدين وخبر الواحد حجة للعمل به في باب الدين فإن لم يوجد في يد الفقهاء أثر في ذلك أو كانت الآثار فيه مختلفة فإن الإمام يجعلها أرض صلح ويجعل القول فيها قول أهلها لأنها في أيديهم فهم متمسكون فيها بالأصل والمسلمون يريدون الاعتراض عليهم بالمنع والهدم فيكون القول في ذلك قول الذين يتمسكون بالأصل مع إيمانهم كيف وقد تأكد قولهم بما ظهر من الصلح بيننا وبينهم في الحال فإن الأصل أن الاشتباه متى تمكن فيما مضى يجب المصير إلى تحكيم الحال كما في جريان الماء في استئجار الرحى. توضيحه: أنا تيقنا ثبوت حقهم فيها في الأصل ووقع الشك والتعارض في الأدلة المثبتة لحق المسلمين فيها واليقين لا يزول بالشك. وعلى هذا لو جاء أثر أنهم أهل صلح وأثر أنهم أخذوا عنوة فإن القول فيه قولهم أيضاً لتعارض الآثار. وهذا بخلاف ما إذا شهد شهود على شهادة شهود أنهم صالحوا وشهد شهود على أنهم أخذوا عنوة فإنه يعمل بشهادة الفريق الثاني لأن الشهادة حجة قاطعة فيرجح بالأثبات والذين شهدوا أنهم صالحوا يبقون على ما كان ولا يثبتون شيئاً حادثاً والفريق الثاني يثبتون ذلك فأما الأثر فليس بشهادة قاطعة والعمل بها في النفي والإثبات وفي الإبقاء والإحداث بصفة واحدة فلتحقق المعارضة يصار إلى التمسك بالأصل وأشار إلى معنى آخر في الكتاب فقال: لما جعل القول قولهم قبل إقامة البينة كان المحتاج إلى البينة هم المسلمون دون أهل الذمة فتقبل بينتهم على ذلك بمنزلة بينة الخارج مع ذي اليد في دعوى الملك المطلق فإن قيل: كان ينبغي أن يترجح بينة أهل الذمة لما فيها من تقرير حرية الأصل ونفي سبب الاسترقاق بمنزلة مجهول الحال إذا ثبت حريته بالبينة في معارضة بينة مدعي الرق عليه قلنا: هذا معنى لا يمكن اعتباره ها هنا فالذين أخذوا عنوة إذا من الإمام عليهم كانوا أحرار الأصل بمنزلة الذين صالحوا على أراضيهم ورقابهم فبين الكل اتفاق على أنهم أحرار لم يملكوا قط وإنما الدعوى فيما في أيديهم من الكنائس فهو بمنزلة الدعوى بين الخارج وذي اليد في ملك ما في يده. ولو جاء أثر أنهم أخذوا عنوة وجاءت الشهادة على شهادة أنهم صولحوا كان الشهادة أحق أن يؤخذ بها لأنها حجة قاطعة فلا يقابلها رواية الأثر لأن ذلك ليس بحجة في موضع المنازعة والخصومة. ولكن يشترط أن يكون شهود الأصل والفرع من المسلمين لأن شهادة أهل الذمة لا تكون حجة على المسلمين ولو جاء أثر أنهم صالحوا وجاءت الشهادة أنهم أخذوا عنوة فإنه يؤخذ بالشهادة ويستوي في ذلك شهادة المسلمين وأهل الذمة لأنها تقوم عليهم الآن باستحقاق ما في أيديهم وشهادة أهل الذمة حجة عليهم والله أعلم بالصواب. وما لا يحل قد بينا أنه لا بأس بتحريق حصونهم وتغريقها ما داموا ممتنعين فيها سواء كان فيها قوم من المسلمين أسراء أو مستأمنين أو لم يكونوا والأولى لهم إذا كانوا يتمكنون من الظفر بهم بوجه آخر ألا يقدموا على التغريق والتحريق لأن في ذلك إتلاف من فيها من المسلمين إن كانوا وإن لم يكونوا ففي ذلك إتلاف أطفالهم ونسائهم وذلك حرام شرعاً فلا يجوز المصير إليه إلا عند تحقق الضرورة والضرورة فيه ألا يكون لهم طريق آخر يتمكنون من الظفر بهم بذلك الطريق أو يلحقهم في الطريق الآخر حرج عظيم ومؤنة شديدة فحينئذ لدفع هذه المؤنة يباح لهم التحريق ومن ضرورة ثبوت الإباحة مطلقاً مع العلم بالحال ألا يلزمهم دية ولا كفارة لأن وجوب ذلك باعتبار قتل محظور وهذا قتال مأمور به فلا يكون موجباً دية ولا كفارة. والسفينة في ذلك كله بمنزلة الحصن في جميع ما ذكرنا وكذلك إن تترسوا بأطفال المسلمين أو منهم وفي الوجوه كلها ينبغي لهم أن يقصدوا بفعلهم المشركين من المقاتلين دون غيرهم لأنهم لو قدروا على التحرز عن إصابة الأطفال فعلاً كان عليهم التحرز عن ذلك فإذا عجزوا عن ذلك وقدروا على التحرز قصداً كان عليهم ذلك عملاً بقوله تعالى: فإن اختلف الرامي وولي المقتول بالرمية من المسلمين فقال الولي: أقصدته بعدما علمت أنه مكره من جهتهم في الوقوف في الصف وقال الرامي: إنما تعمت المشركين بالرمي فالقول قول الرامي مع يمينه لأن الرمي إلى صف المشركين مباح له وذلك غير موجب الضمان عليه باعتبار الأصل فيجب التمسك بذلك الأصل حتى يقوم الدليل بخلافه. ثم الولي يدعي على الرامي سبب وجوب الضمان وهو تعمده إياه بالرمي مع العلم بالحال وهو منكر فكان القول قول المنكر مع يمينه ولأن الظاهر شاهد للرامي والمسلم لا يتعمد الرمي إلى المسلم ومطلق فعل المسلم محمول على ما يحل شرعاً لأن دينه وعقله يحمله على ذلك ويمنعه عن ارتكاب ما لا يحل فلهذا جعلنا القول قول الرامي في ذلك. إلا أنه يحلفه لأن الولي يدعي عليه ما لو أقر به ألزمه فإذا أنكر استحلف لرجاء نكوله فإذا سبى المسلمون المرأة مع ولدها الصغير فلم يقدروا على حملها فقد بينا أنه لا يحل لهم أن يقتلوهما لأن قتل النساء والولدان حرام بالنص. ولكن يتركونهما في مضيعة لأن في تركهما في مضيعة امتناع من الإحسان إليهما بالنقل إلى موضع الأمن والامتناع من الإحسان لا يكون إساءة. وإذا كان معهما أب الصبي فلا بأس بأن يقتلوه لأنه أسير مباح الدم. ولو امتنع قتله لما فيه من ضياعهما لامتنع قتال المشركين أصلاً لأنه لا يقتل أحد منهم في الحرب إلا وفيه توهم ضياع عياله. فإن قدروا على أن يحملوا المرأة دون الصبي وعلموا أن الصبي يموت إذا فرقوا بينهما أو كان ذلك أكبر ظنهم فلا بأس بأن يفعلوا ذلك لأنهم لو تركوهما كان فيه ضياع الصبي أيضاً ولأن تضييع أحدهما دون الآخر فهو خير من تضييعهما ولأنهم يحملون المرأة دون الصبي يقصدون منفعة أنفسهم في استرقاقها وذلك حق مستحق للمسلمين. ولا بأس بالتفريق بين الوالدة وولدها بسبب حق مستحق إلا أنه ينبغي لهم ألا يرموا بالصبي عن خيولهم رمياً ولكن يضعونه على الأرض وضعاً لأنهم إذا رموا به كان هالكاً بفعلهم وذلك بمنزلة القتل منهم له وإذا وضعوه لم يكونوا قاتلين له ألا ترى أن من وجد لقيطاً فرفعه ثم وضعه في مكانه لم يكن عليه في ذلك شيء ولو رمى فتلف كان ضامناً بدل نفسه فبهذا تبين الفرق بين الوضع والترك في موضع يعلم أنه يهلك فيه. وكذلك إن كانوا يقدرون على حمل الصبي ولا يقدرون على حمل أمه فلا بأس بأن يحملوه ويتركوها إذا كانوا يطمعون في إخراجه صحيحاً بأن كانوا يقدرون على غذاء يغذونه به إذا فرقوا بينه وبين أمه فإن كانوا لا يقدرون على ذلك ولكنهم يتيقنون بأنه يموت في أيديهم إذا حملوه دون أمه فالأولى أن يتركوه مع أمه لأن هذا تفريق غير مفيد ولأنهم إذا تركوه مع أمه لا يكون هلاك الولد إلى فعلهم تسبيباً ولا مباشرة وإذا حملوه دون أمه كان هلاك الولد مضافاً إلى فعلهم تسبيباً من حيث التفريق بينه وبين ما يتغذى به من لبن أمه. وإن كانوا يقدرون على حمل أحدهما أيهما شاءوا فينبغي أن يحملوا ما يكون منفعتهم فيه أكثر لأن باعتبار المنفعة يباح أصل الحمل في أحدهما دون الآخر فبزيادة المعنى في المنفعة يقع الترجيح أيضاً. وإن كانت المنفعة واحدة فإن لم يطمعوا في أن يعيش الصبي إذا فصل من أمه فينبغي أن يحملوا الأم دون الصبي لأنه لا منفعة في حمل الصبي الآن. وإن كانوا طمعوا أن يعيش الصبي معهم بما يغذونه به فالأولى أن يحمل الصبي ويتركوا الأم لأن خوف الضياع والعجز عن الإحسان لنفسه في حق الصبي أظهر ولأن الأم كافرة مخاطبة فالامتناع من الإحسان إليها عند أصرارها على الكفر يكون أولى من الأمتناع من الإحسان إلى الرضيع. وإن قدروا على حملها فلست أحب لهم أن يتركوا واحداً منهما لما فيه من ترك إيصال المنفعة إلى المسلمين مع التمكن من ذلك لما فيه من التفريق بين الوالدة وولدها وقال صلى الله عليه وسلم: من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ولأنهم نقلوهما إلى هذا المكان وفي ترك أحدهما في هذا المكان تضييع له فلا يجوز الإقدام عليه إلا عند العجز عن حملهما. وبه فارق ما لو وجدوهما في هذا الموضع فإن هناك لا بأس بأن يأخذوا أحدهما أيهما شاءوا لأنهم ما نقلوهما إلى هذا الموضع ولهم أن يتركوهما في هذا الموضع مع القدرة على حملهما فيكون لهم أيضاً أن يتركوا أحدهما ويأخذوا الآخر لأنه تفريق بحق. وهذا إذا طمعوا أن يعيش الصبي في أيديهم بما يغذونه به إذا أخذوه فإذا لم يطمعوا في ذلك فلا ينبغي لهم إلا أن يأخذوهما إن قدروا على ذلك أو يتركوهما لأن في أخذ الصبي وحده تفريق غير مفيد. وإن لم يقدروا على أحدهما فليأخذوا الأم لأن فيه منفعة لهم. ولا بأس بأن يأخذوها وإن كان أكبر الرأي منهم أن الصبي يموت لأنهم بأخذ الأم يقصدون تحصيل المنفعة لهم وأخذها ليس بقتل منهم للصبي بعينه. وكذلك لو وجدوا مع الصبي أباه فلا بأس بأن يقتلوه أو يأسروه وإن كانوا يعلمون أن الصبي يموت بعده لأن هذا ليس بتعرض منهم للصبي بشيء. وكذلك إن كان مع الصبي والداه فلا بأس بأن يوضع الصبي ناحية ويؤخذ أبواه فيؤسران إلا ترى أنه لا بأس بتحريق حصونهم وتغريقها وإن كان فيه هلاك الأطفال فلأن يجوز قتل المشرك وأسره وإن كان فيه هلاك الصغير كان أولى إلا أنه ينبغي لهم ألا يرموا بالصبي ولكنهم يضعونه في موضع من الأرض إن تمكنوا من ذلك فإن لم يتمكنوا بأن كان المشركون في أثرهم فخافوا أن ينزلوا فيضعوه على الأرض أن يلحقهم المشركون فلا بأس أن يرموا به عن يخولهم ولا يتعمدوا قتله. لأن أمر أنفسهم أهم والتحرز عن وقوعهم في أيدي المشركين واجب عليهم بحسب الإمكان فكان حالهم الآن فيما ابتلوا به كحال تترس المشركين بالأطفال وقد بينا أن هناك لا بأس بالرمي إليهم بشرط ألا يتعمدوا قتل الصبيان فها هنا أيضاً لا بأس برمي الصبيان عن دوابهم إذا عجزوا عن حملهم وعن وضعهم على الأرض فإن قتلهم رميهم لهم فلا شيء عليهم من الكفارة ولا إثم إن شاء الله تعالى لأنهم فعلوا ما أمروا به ولكنه قيد بالاستثناء ها هنا وهذا ليس في معنى التترس من كل وجه فهناك لم يتصل منهم فعل بالأطفال قبل أن تترس بهم المشركون وفي هذا الموضع قد اتصل منهم فعل بالأطفال قبل أن يبتلوا برميهم وهو حملهم ونقلهم من موضع إلى موضع فلهذا قيد الجواب الاستثناء. وكذلك إن كانوا في سفينة ومعهم فيها أطفال من أطفال المشركين فانتهوا إلى مكان من البحر أكبر الظن منهم إن لم يطرحوهم في الماء غرقت السفينة ومن فيها فلا بأس بأن يطرحوهم ولا يتعمدوا بذلك قتلهم لأنه تعين عليهم هذا الوجه لنجاتهم مما ابتلوا به فكانوا في سعة من الإقدام عليه. ولو كان معهم أطفال المسلمين في الفصلين والمسألة بحالها فليس ينبغي لهم أن يطرحوهم ولا أن يرموا بهم لأن حرمة أطفال المسلمين كحرمة الكبار منهم. وقد بينا أن المسلم لا يحل له أن يقي روحه بروح من هو مثله في الحرمة كما لو أكره بوعيد القتل على أن يقتل مسلماً ولأنهم يتعجلون في هذا قتل المسلمين والمسلمات ولا رخصة في ذلك لمن يخاف الهلاك على نفسه ألا ترى أنه لو ابتلي بمخمصة لم يحل له أن يتناول أحداً من أطفال المسلمين لدفع الهلاك عن نفسه. ولو كان معهم في سفينة قوم من أهل الذمة أو من أهل الحرب مستأمنين فهم في ذلك كالمسلمين لا يسعهم أن يطرحوهم في الماء وإن خافوا على أنفسهم لأنهم آمنون فيهم بسبب الذمة أو الأمان فكانوا كالآمنين بسبب الإيمان. وحقيقة المعنى: في الفرق بين هؤلاء وبين أطفال أهل الحرب أنهم منعوا من قتل هؤلاء لوجود عاصم منهم. ألا ترى أنهم لا يسترقونهم كما لا يقتلونهم وفي حق الأطفال المنع من القتل ليس بعاصم فيه بل لانعدام العلة الموجبة للقتل وهي المحاربة. ولهذا جاز استرقاقهم مع أن في الاسترقاق إتلافاً من طريق الحكم فلضعف حالهم قلنا: عند تحقق الضرورة يرخص له في أن يجعلهم وقاية لنفسه وعلى هذا لو هدد ملكهم أسيراً من المسلمين بأن يقتل صبياً منهم أو امرأة وقال: إن لم تقتله قتلناك كان في سعة من أن يقتله وفي سعة من أن يمتنع منه حتى يقتل في دار الحرب ولا يثبت من ذلك من الترخص له إذا أكره على قتل مسلم أو ذمي. ولو أن جريدة خيل من المسلمين أصابوا في دار الحرب أطفالاً من أطفال المسلمين فحملوهم على خيولهم ثم لحقهم العدو فإنه لا يسعهم أن يرموا بالأطفال ولكن إما أن يموتوا عن آخرهم أو ينقلبوا هم والأطفال للمساواة بينهم في الحرمة والعصمة وهذه المساواة إنما تتحقق بعدما أخذوهم والتزموا حملهم إلى دار الإسلام وإن كانوا لم يأخذوهم بعد وخافوا إن يأخذوهم أن يعجزوا عن حملهم وأن يدركهم المشركون فلا بأس بأن يتركوهم لأن في هذا منهم ترك الإحسان إلى الأطفال لا الإساءة إليهم ولأنهم يمتنعون من التزام ما لا يقدرون على الوفاء به إذا التزموه فإن قاتلوا عنهم حتى يقتلوا أو يظفروا بالعدو فيخرجوهم فذلك أفضل. لأن الدفع عن أطفال المسلمين عزيمة وترك ذلك عند الضرورة رخصة والتمسك بالعزيمة خير من الترخص بالرخصة. وإن كان أكبر الرأي منهم أنهم يقوون على المشركين حتي يأخذوا منهم الأطفال لم يسعهم تركهم لأن الدفع عن أطفال المسلمين بحسب الإمكان هو العزيمة وعند النفير العام يفرض الخروج للقتال على كل من يقدر عليه عيناً للدفع عن أطفال المسلمين فكذلك في هذا الموضع والحاصل أنهم إذا كانوا يطمعون في أن ينجوا مع أطفال المسلمين إذا قاتلوا لم يسعهم إلا ذلك وإن كانوا لا يطمعون في ذلك فحينئذ يرخص لهم في البداية بأنفسهم في اكتساب سبب النجاة عملاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ابدأ بنفسك ثم بمن تعول وعلى هذا لو ابتلوا بهذه الحادثة في أطفال من المشركين حملوهم بدون الآباء والأمهات حتى أخرجوهم إلى دار الإسلام ثم أدركهم المشركون لأن هؤلاء الأطفال صاروا مسلمين باعتبار دار الإسلام حين لم يكن معهم فيها أحد من آبائهم وأمهاتهم ألا ترى أن من مات منهم يصلى عليه فكانوا بمنزلة أطفال المسلمين في ذلك. ولو كان أكبر الرأي من المسلمين أنهم إن رموا بهم لم يهلكوا ولكن المشركين يأخذونهم فيردونهم إلى بلادهم فلا بأس بأن يطرحوهم إذا لم يكن بهم قوة على أولئك المشركين لأنه ليس في هذا هلاك ولا قتل للأطفال وإنما الممنوع منه أن يجعل روح من هو مثله في الحرمة وقاية لروحه. وكذلك لو كان معهم أطفال المسلمين أو نساء مسلمات فخافوا إن لم يطرحوهم أن يلحقهم المشركون فيقتلونهم ولم يكن لهم قوة على المشركين فلا بأس بأن يطرحوهم إذا علموا أن المشركين يأخذونهم ولا يقتلونهم لأنه ليس في هذا قتل ولا هلاك ألا ترى أنهم لو حاصروا حصناً من حصون المسلمين فيه النساء والأطفال ولم يكن للمسلمين قوة على قتال أهل الحرب كانوا في سعة من أن يخلوا بينهم وبين الحصن لأنه ليس في فعلهم إتلاف النساء والأطفال من المسلمين. وإن كانوا يقدرون على قتالهم أو كان أكبر الرأي على أنهم ينتصفون منهم فليس يسعهم أن يدعوهم لأن أكبر الرأي فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته كاليقين والدفع عن ذراري المسلمين فرض عين على كل مسلم عند التمكن منه. ولو كانوا في سفينة فخافوا إن لم يرموا بالنساء والصبيان في الماء أن يأخذ المشركون من في السفينة لم يحل لهم أن يرموا بهم في الماء لأن أكبر الرأي في الماء أنه مهلك فكان في هذا إتلاف الذراري ولا رخصة للمسلمين في ذلك لتحصيل النجاة لأنفسهم بخلاف الأول فالرمي بهم عن الخيول هناك غير متلف لهم غالباً حتى أن في السفينة إذا كان أكبر الرأي منهم عند الرمي بالنساء والصبيان أنهم لا يهلكون ولكن يأخذهم المشركون فلا بأس بأن يفعلوا ذلك إذا كان أكبر الرأي منهم أن يهلكوا جميعاً إن لم يفعلوا ذلك. ولو أخذت السرية أطفالاً من المشركين في دار الحرب فعجزوا عن حملهم ومروا بحصن من حصونهم فسألوهم أن يدفعوهم إليهم حتى يقوموا بتربيتهم فليس على المسلمين ذلك ولكنهم يضعونهم وضعاً فإن شاء أولئك نزلوا فأخذوهم وإن شاءوا تركوهم لأن الدفع إليهم للتربية من باب الإحسان وقد بينا أن ذلك ليس بواجب على المسلمين في أطفال المشركين إنما عليهم الامتناع من الإساءة ووضعهم إياهم على الأرض ليس من الإساءة في شيء فلهذا كان الرأي إليهم إن شاءوا وضعوهم على الأرض وإن شاءوا أسلموهم إليهم وما بعد هذا إلى أخر الباب فقد تقدم بيان شرحه والله الموفق.
|